احتفظوا بلقب الشيوعي !!
لم يعد اليسار , أو الشيوعية , تثير رعب السادة كما كان الأمر منذ عقود . مضت
الأيام التي كان إعلام الطغاة يصورون فيه اليسار على أنه وحش كاسر , لسبب ما تم
تدجين هذا اليسار لدرجة أنه أصبح أشبه بحيوان عاجز , مجرد خيال مآتة لما كان عليه
منذ عقود , بل و ربما مجرد كائن مصاب بمرض شديد , لا يشكل اليسار اليوم حاملا لهموم
الناس العاديين , الذين عادوا من جديد إلى بخور و تمائم رجال الدين بحثا عن عزاء و
معنى مزيف لمأساتهم , اليسار اليوم مجرد تجمع نخبوي يجتر و يردد ما تعده المطابخ
الفكرية للطبقات السائدة , المحلية تارة و العالمية تارة أخرى , في دعوة مباشرة و
فجة للحفاظ على الوضع القائم , اليوم يوجد قادة هذا اليسار إلى جانب , غالبا في
الصف الثاني , أعتى الطغاة في شرقنا و في العالم , و عندما يتحدثون عن الديمقراطية
يحولونها إلى طريقة أكثر تهذيبا لممارسة القهر السياسي و الاجتماعي لغالبية البشر ,
أو أنهم يقفون إلى جانب الأثرياء طغاة المال و السوق السلطة المطلقة لعالم النيو
ليبرالية , في هذا العالم الذي يملك فيه قسم محدود من البشرية الماء النظيف و
الكهرباء و القدرة على التبرز في مراحيض موصولة بشبكة صرف صحي حقيقية أو القدرة على
التواصل عبر الانترنيت و يستهلكون كل ما تنتجه مؤسسات تشكيل الرأي العام "النخبوي"
التابعة للطبقات السائدة و يعيدون إنتاجه و تبادله و كأنه الحقيقة المطلقة , لا بأس
ببعض الأخلاقيات تجاه الغالبية المحرومة و المهمشة من البشرية فهذا يمنح هذه النخبة
شيئا من الراحة الأخلاقية تجاه واقع الانقسام الطبقي المريع و الكثير من المبررات
لتمرير حقيقة هذا الانقسام و الموقع المتميز "نسبيا" للنخبة في التركيبة الطبقية
لمجتمعاتنا , يستمر الكلام بحماسة عن الطبقة الوسطى , هذا الاكتشاف القديم الجديد
لفترة النيو ليبرالية , الذي استبدل مفهوم الطليعة – الحزب القائد اللينيني بالنخبة
القائدة النيو ليبرالي , هنا نبلغ قعر المأساة , فالعالم لن يتغير نحو شيء أشبه
بالحرية الحقيقية ما لم يصبح البشر جميعا حكام أنفسهم في حالة تستعيد بدايات
التمثيل المباشر الحر تماما للبشر ( في مجالس أو سوفيتيات أو أية شبكة مؤسسات
قاعدية أفقية للتسيير الذاتي للجماهير ) مع أول الثورات ضد البرجوازية المعاصرة ,
هنا بالتحديد نعني البشر المنتجين و المهمشين في نفس الوقت , أما ما تفعله النخب ,
و ما فعلته حتى اليوم , فهو استبدال منطق سلطوي بآخر , استبدال نخبة بأخرى فبأخرى
في عملية بحث لا نهائية عن الحكم الرشيد و النخبة الأمثل هذا البحث الذي يشكل الحجة
الأولى لاستمرار النظام الطبقي و التراتبية الهرمية إلى ما شاء الله , بينما
الحقيقة أنها ذات النخبة و هي تلعب لعبة الكراسي الموسيقية و تستبدل إيديولوجيا
بأخرى في تبرير و شرعنة سلطتها , إن إنتاج العالم و إعادة صياغته ليست مهمة النخبة
, هذا الواقع يفرضه تاريخ طويل من التهميش و التجهيل و القمع السياسي و الفكري و
العقيدي و الأخلاقي لمعظم البشر على هذه الأرض لصالح أقلية محدودة جدا من السادة
والأثرياء , لكن هذا العالم لن يصبح جديرا بحياة البشر إلا إذا صنعه كل البشر , إلا
إذا تم تجاوز واقع و منطق وجود النخبة نفسه , أي واقع التهميش السياسي و الفكري و
الاجتماعي للغالبية العظمى من البشر , لا تكريسه بأي شكل من الأشكال , ليست القضية
اليوم في استنهاض أخلاقية فارغة عند النخبة أو إقناعها بلا جدوى مشاريعها لإنتاج
سلطة تلو أخرى أو منظومة استغلال تلو أخرى , و لا في المشاركة في الجدال النخبوي عن
أفضل أشكال التسلط على الناس و الصفات الأمثل للطغاة , لا يشكل نقد واقع اليسار
اليوم دعوة للعودة إلى الماضي أو إلى الأصول , هذا هو الفرق الفعلي بين المقاربة
التي تقوم على تقديس الماضي أو الأصول و بين تلك التي تعتمد نسبية الحقيقة و دوام
التغيير كقاعدة أساسية , بل و وحيدة , للوجود , ليس هذا فحسب , بل إن الواقع المزري
لليسار اليوم ليس إلا نتيجة مباشرة لذلك الماضي و تلك الأصول , عندما كان طغاة مثل
عبد الناصر و صدام و الأسد هم مدخل التغيير المزعوم , الذي قام به النيوليبراليون
اليوم هو استبدال صدام و عبد الناصر ببوش و من بعده بأوباما أو أي شيء تنجبه دوائر
السلطة المحلية أو النظام الرأسمالي العالمي بعد أن أوسعوا ذلك المثال الساقط ذما و
نقدا بانتظار سقوط المثال الجديد و اختراع مثال آخر , هذا هو التغيير المثير
للاشمئزاز الذي يقابله الناس بالتجاهل و الاستهزاء الصامت إلا بالقدر المفروض عليهم
من واقع بؤسهم اليومي و سيطرة الميليشيات و المؤسسات الطائفية الميليشيوية على
حياتهم , أما بالنسبة لليسار القائم و قادته بين من يجالس قدامى الطغاة و محدثيهم ,
بين من يجالس زعماء الطوائف و أرباب رأس المال و بين من يهتف بحماسة للنظام النيو
ليبرالي أو من يهتف بذات الحماسة لأنظمة الاستبداد , يستحق هذا اليسار لقب شيوعي ,
ذلك اللقب الذي يندمج تدريجيا و بشكل نهائي و غير عكوس مع صورة الانتهازي أو
البرجوازي الصغير المذعور بعدما انقرض آخر الشيوعيين المستعدين للموت في سبيل
القضية ( التي لم تعد موجودة اليوم أصلا بعيدا عن دور هامشي في الصراع ضد الأصوليين
) , و استبدل بمن يبحث عن مكان ما يعتاش منه , عن وظيفة في المؤسسات السائدة ,
فاليسار الذي يمكنه أن يغير العالم , أن يثير رعب السادة و الطغاة من جديد , أن
يثير رعب الحراس , ينتظر أن يولد من رحم الناس و حركة صعودهم من جديد في وجه
مضطهديهم...................
مازن كم الماز
|